كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وإن كان قد يجاب عن كل ذلك بأن اللّه تعالى طلب منهم الثبات على العهد، والطلب من اللّه تعالى هو الأمر به، فيصح اطلاق قوله: {وَما وَجَدْنا}، لأنه يطلب منهم ما قدمه إليهم من العهد.
وإذا قال القائل: فلان لا يجد ألفا دينار، فمعناه أنه لا يتسع طلبه له، وإن تمحل وطلب.
وعلى الجملة لو قطعنا بأن لا ماء، فلا يجب عليه الطلب حتى يظهر عدم الماء في المصادر، ولو ظهر وجوده لوجب عليه الطلب، حتى يجب عليه الطلب من الرفقة وفي مواضع إمارة الماء.
وربما نسلم لهم إذا غلب الظن بعدم الماء، وهم يسلمون لنا إذا لم يبعد وجود الماء، فيرتفع الخلاف.
وفي أصحابنا من يقول: إذا لم يتيقن عدم الماء لم يصح التيمم، لأن عدم الماء شرط، والشرط لابد من تيقنه.
وهذا بعيد، فإنه وإن طلب وبالغ، فلا يحصل التيقن من من عدم الماء، وإنما يحصل الظن الغالب، فأما اليقين فغير مظفور به، وفي الوقت أمكن انتظار اليقين، فافترقا لذلك.
وإذا خاف في الاستعمال بالوضوء فوات الوقت، لم يتيمم عند أكثر العلماء، ومالك يجوز التيمم في مثل ذلك.
وللشافعي مسائل تدل على ما يقارب مذهب مالك، واستقصيناها في المذهب.
والذي لا يجوز يتعلق بقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا}، وهذا واجد، فقد عدم شرط صحة التيمم فلا يتيمم.
والقائل الآخر يقول: ما جاز التيمم في الأصل إلا لحفظ وقت الصلاة، ولو لا ذلك لوجب تأخير الصلاة إلى حين وجود الماء.
فيقال: ولكن يمكن أن يقال: إلا أن السفر يكثر وإعواز الماء فيه يغلب، فلو جاز تأخير الصلاة إلى حين وجود الماء، تكاسل الناس عن إعادة الصلاة، فأوجبت الصلاة بالتيمم تمرينا عليه.
وهذا لا يتحقق فيما إذا كان فوت الصلاة نادرا في حالة خاصة فاعلمه.
فإن قيل: جازت صلاة الخائف لأجل الوقت مع ندور الخوف.
ويجاب عنه بأن هناك وجد شرط صحة الصلاة وهو الخوف، وهاهنا عدم الشرط وهو العدم.
وقد قيل في حق المسافر والخائف ما أبيح التيمم، لئلا يفوت الوقت.
ولذلك جاز في أول الوقت.
فيقال: جوازه في أول الوقت لا ينافي ما قلناه، فإنه لو لم يجز في أول الوقت لم يجز في وسط الوقت، حتى ينتهي إلى قدر ينطبق على فعل الصلاة، وذلك عسر غير مضبوط، فلم يمكن اعتباره.
واعلم أن هذا الكلام لا يستقيم لأبي حنيفة من وجهين:
أحدهما: أنه يجوز التيمم لخوف فوات صلاة الجنازة مع عدم الشرط، وقد قال تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا ماءً} وهو واجد.
والثاني: أنه جوز التيمم قبل الوقت من غير ضرورة، وذلك يدل على أنه لا تعتبر الحاجة.
واختلف في من حبس في حبس، لا يقدر على ماء ولا تراب نظيف، فالشافعي يقول: يصلي ويعيد.
وأبو حنيفة وزفر ومحمد يقولون: لا يصلي أصلا حتى يقدر على الماء.
وإذا ثبت هذا، فقد جعل اللّه تعالى التيمم شرط صحة الصلاة أو الوضوء، فإذا لم يقدر عليهما، فربما يقول القائل: إذا لم يتحقق شرط الشيء لم يثبت المشروط دونه، ولم يتحقق الشرط في حق من عدم الماء والتراب، فلا جرم. قال أبو حنيفة: لا يصلي لعدم شرط العبادة.
وقال المزني: يصلي لأن الشرط إنما أريد في هذا الموضع لتكملة المشروط ولحسن نظامه، لا لأنه شرط لعينه، ومتى كان كذلك، لم تزد رتبته على رتبة الأركان، والعجز عن بعض الأركان لا يسقط القدر المقدور عليه، وكذلك ها هنا، فعلى هذا يصلي ولا يعيد.
والشافعي يقول: أما الذي ذكره المزني من أنه يصلي فصح، ولكنه يصلي مراعاة لحق الوقت مع العجز عن كماله، فإذا قدر على الكمال وجب الإتيان به.
وهذا القياس كان يقتضي مثله في ترك بعض الأركان في حق المريض، أو ترك الوضوء في حق المسافر، إلا أن تلك الأعذار عامة، ويكثر وقوعها، فتكليف القضاء يجر حرجا.
وقد استقصينا ذلك في مسائل الخلاف.
وقد احتج المزني بما روى في قلادة عائشة رضي اللّه عنها حين ضلت، وأن أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الذين ندبهم لطلب القلادة، صلوا بلا وضوء ولا تيمم.
والتيمم إذا لم يكن مشروعا فقد صلوا بلا طهارة أصلا، ومنه قال المزني لا إعادة، وهو نص في جواز الصلاة مع عدم الطهارة مطلقا عند تعذر الوصول إليها.
فإن قيل: جواز الصلاة كان لعدم الماء، من حيث لا بدل له كالتراب الذي لا بدل له الآن.
واختلف العلماء في جواز التيمم قبل وقت الصلاة، والشافعي لا يجوزه، فإنه لما قيل لنا: «فإن لم تجدوا ماء فتيمموا»، ظهر منه إجزاء التيمم بالحاجة، ولا حاجة قبل الوقت، وعلى هذا لا يصلي فرضين بتيمم واحد، والمسألتان استقصيناهما في علم الخلاف، وأصلهما كتاب اللّه تعالى، وهو تقييد التيمم بوقت الحاجة والضرورة وهذا بين.
ولما قال اللّه سبحانه وتعالى: {إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا}، جعل وجوب الطهارة للقيام إلى الصلاة، وتقديره إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون، فإذا شرع في الصلاة بالتيمم وصح الشروع ثم وجد الماء، فليس هو قائما إلى الصلاة، فلا يتناوله الأمر بالطهارة.
وتتمة القول فيه، أنه قد صح منه أداء ما شرع فيه، ومتى صح منه أداء ما شرع فيه، فلا يمكن أن يقال إنه كان التيمم شرطا لبعض الصلاة، فإن كون التيمم شرطا لبعض الصلاة لا يتحقق معناه، مع أن المشروط لا بعض له، فلابد أن يجعل شرطا للجميع ضرورة تصحيح البعض، فإذا حكمنا بصحة البعض على تقدير أن التيمم لا بعض له، اقتضى ذلك كون التيمم شرطا لصحة جميع الصلاة، وخروج الوضوء عن كونه شرطا، في حالة كون التيمم شرطا.
ولا يجوز أن يقال إن كون التيمم شرطا موقوف، فإنه لو كان كذلك كانت صحة الصلاة موقوفة، وهي صحيحة قطعا بلا وقف.
وإن هم قالوا: إذا وقع في علم اللّه تعالى أن يجد الماء في خلال الصلاة، لم تكن الصلاة صحيحة من الأول، فهذا باطل، فإن حكم اللّه تعالى مبني على وجود سببه، وعلى توافر شرائطه، وقد توافرت شرائط الصحة في أول الصلاة، فلا يمكن الحكم بعدم الصحة.
فإن قيل: فإذا تخرق الخف أو انقضت مدة المسح، أليس تبطل الصلاة، مع أن القدر الذي وقع الشروع فيه كان صحيحا؟
والجواب: أن ذلك سببه أن الحكم بالصحة على تقدير توافر الشرائط، وجعلنا التيمم شرطا لصحة جملة الصلاة، ولأنه لا يمكن جعله شرطا لصحة البعض، وليس في حق الماسح شيء يمكن أن يقال إنه جعل شرطا للصلاة بدلا عما فات، فان الخف لا بدل له، والخف شرط لجميع الصلاة، فإذا لم يكن لم تصح، وهاهنا التيمم هو الشرط وقد وجد، فهذا تمام ما أردنا بيانه من ذلك.
وأبعد بعض المصنفين في أحكام القرآن فقال: كما قال تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا}، فإنما أباح التيمم عند عدم كل جزء من ماء، لأنه لفظ منكر يتناول كل جزء منه، سواء كان مخالطا لغيره أو منفردا بنفسه، ولا يمنع أحد أن يقول في نبيذ التمر ماء، فلما كان كذلك لم يجز التيمم مع وجوده بالظاهر.
وهذا جهالة مفرطة، فإن إطلاق اسم الماء لا ينصرف إلى النبيذ، ولا حاجة فيه إلى إطناب، وتقدير اشتمال اسم الماء عليه، كتقدير اشتماله على كل مرقة ونبيذ في الدنيا، وذلك جهل، ولو كان كذلك لدخل تحت مطلق اسم الماء، ولو دخل تحت مطلق اسم الماء، لم يترتب ماء على ماء. وقد قلتم لا يتوضأ بالنبيذ مع وجود الماء، فهذا ما أردنا بيانه من هذا المعنى.
ووجب التيمم إلى المرفقين مثل الوضوء، لأن اسم اليد شامل للعضو إلى المنكب، إلا ما خصه الدليل، وقد بينا وجه الكلام عليه.
قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}: يقتضي اختلاف الفقهاء فيما يتيمم به.
فقال الشافعي: لا يجوز إلا بالتراب الطاهر، أو الرمل الذي يخالطه التراب.
وأبو يوسف يضم إليه الرمل الذي لا تراب فيه.
وأبو حنيفة يجوز بالنورة والزرنيخ.
وقال مالك: يتيمم بالحصا والحبل، وإن تيمم بالثلج ولم يصل إلى أرض أجزأه، وكذلك الحشيش إذا كان ممتدا.
واشترط الشافعي أن يعلق التراب باليد فيتيمم به نقلا إلى أعضاء التيمم، كالماء ينقل إلى الأعضاء، أي أعضاء الوضوء. ولا شك أن لفظ الصعيد ليس نصا فيما قاله الشافعي، إلا أن قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم:
«جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا»، يبين ذلك.
واستنبط الرازي من قوله: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} أن الباء لما كانت للتبعيض، وجب بحكم الظاهر جواز مسح بعض الوجه، مثل ما فهم من قوله: {وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ}.
والذي ذكره ليس بصحيح على ما تقدم، فإن الباء لا تدل على شيء مما ذكره، وقد قال تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}، ولو طاف ببعض البيت لم يجز.
قوله تعالى: {ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ}:
هذا يحتمل أن يكون معناه: إنّا لم نرد تكليفكم لنشق عليكم، وإنما أردنا بتكليفكم اللطف بكم في محو سيئاتكم وتطهيركم من ذنوبكم، كما قال عليه الصلاة والسلام:
«إذا توضأ العبد فغسل وجهه خرجت خطاياه وذنوبه من وجهه، وإذا غسل يديه خرجت ذنوبه من يديه» إلى آخره.
وقوله تعالى: {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}، إنما أراد به التطهير من الذنوب، ويحتمل التطهير من الأحداث والجنابة.
فكأنه قال: هذه الأفعال ليست واجبة لذواتها، وإنما هي لمقصود، وهو حصول الطهارة عن الأحداث بها فهو المقصود والمغزى.
وهذا يضعف من وجه، فإن الطهارة من الجنابة ليست غرضا للخلق، حتى يقال ما أردنا تضعيف الأمر عليكم، إنما أردنا كذا، فليست الجنابة نجاسة منكرة في الطبع، وإنما اللّه سبحانه وتعالى قال: طهروا أنفسكم، فسمى الوضوء طهارة، وإنما صار طهارة بالشرع، فقوله: {ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ}.
يجب أن يفيد مقصودا للعبد، ليكون يحصل بذلك المقصود نفي الحرج، وجعل الحدث نجاسة واجبا إزالتها، ليس بنفي الحرج ولا يحقق للعبد مقصودا، فدل على أن المراد به كون الوضوء مشروعا عبادة لدحض الآثام، وذلك يقتضي افتقاره إلى النية، لأنه شرع لمحو الإثم ورفع الدرجات عند اللّه تعالى، وقد قيل: قوله: {ليطهركم}، أي ليحقق نظافتكم عاجلا، وهذا فيه بعد، فإنه ذكر ذلك عقب التيمم، وهو لا يحقق هذا المعنى، إذ ليست النظافة في الوضوء ظاهرة للخلق ظهورا يقال إن الشرع أمر بها لأجل ذلك.
وقوله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ}- إلى قوله- {لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا}، الآية 8: دل صدر الآية على وجوب القيام للّه تعالى بالحق، وكل ما يلزمنا القيام به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقوله تعالى: {شُهَداءَ بِالْقِسْطِ}، أي بالعدل، ويحتمل أن تكون هذه الشهادة لأمر اللّه تعالى أنه حق، ودل سياق الآية عليه.